شهية ومملوءة رائحة عطرة، سيرة أبينا الطوباوي أنبا هدرا قديس أسوان المحلي، ذي الاسم الحسن والحياة المملوءة جهادًا، بل وقتالاً ضد قوات الظلمة، الحياة المكللة بالإنتصارات الروحية بل وبتاج الأسقفية الرفيع.
الأنبا هدرا وأشواقه الرهبانية:
جيد بنا أن ننصت في اهتمام بالغ إلي الحياة الحافلة بالمشاعر الروحانية العميقة التي تكمن منطلقة في حياة قديسنا البار أنبا هدرا، في حداثته النقية، رهبانيته المجيدة والتي تجلت في أسقفيته الجليلة .
وُلد هذا القديس من أبوين مسيحيين فربّياه وعلّماه مخافة الرب منذ صغره. ولما بلغ الثمانية عشر من عمره أحب والداه أن يزوجاه من إحدى قريباته. فلما جاء الوقت امتنع بحجة المرض.
لقد رفض الزواج ليس هربًا من المسئوليات الأسرية، ولا بكونه أمرًا دنسًا أو غير لائقٍ، وإنما لأنه عشق تكريس كل كيانه ووقته للعمل الروحي. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن البتولية: ” إننا نقولها الآن بوضوح أن البتولية هي رفيقة الإنسان في عمله الروحي ومساعدة له في الوصول إلى الهدف السامي للحياة. إنها قوة، حتى أنهم يتشبهون بالطبائع الروحية “.
في إحدى الليالي رأى شخصًا منيرًا يقول له: ” يا هدرا يا هدرا، لا تبطئ عن النهوض إلى ما اهتممت به من الفكر الصالح، بل قم مسرعًا وتممه “. فقام مسرعًا ومضى إلى الكنيسة مصليًا كعادته، سائلاً الله أن يعينه وأن يرشده إلى ما فيه خلاص نفسه، وكان يردد المزمور القائل: ” طوبى للذين بلا عيب في الطريق، السالكون في ناموس الرب ” ( مز 118: 1 ). ذهب إلى الكنيسة مبكرًا، وصلى مع الجماعة، وطلب من السيد المسيح أن يسمعه من أقوال الكتب المقدسة ما يتفق وما في قلبه، فسمع ما ارتاح إليه.
إنطلاقه للدير:
لما خرج من الكنيسة رأى رجلاً ميتًا محمولاً ، فسار مع المشيعين وكان يحدث نفسه قائلاً: ” اسمع يا هدرا، ليس هذا الذي قد مات ولكنك أنت الذي قد متّ عن هذا العالم الزائل “.
ولما دفنوا الميت ترك أهله وماله ومضى إلى الدير بمنف وأقام مع الرهبان. ولما سمع أقاربه وأصدقاؤه أتوا إليه وقالوا له: ” إنك بعملك هذا تجلب علينا الحزن وأنت تستطيع أن تعبد الله في أي مكان شئت “. وإذ لم يفلحوا في إرجاعه عن رأيه عادوا والحزن يملأ قلوبهم على فراقه.
أما هو فقد سكب نفسه في عبادةٍ حارةٍ ونسكٍ عظيمٍ وصومٍ دائمٍ وصلواتٍ متواترةٍ ومطانيات عديدة. وكان في أيام القديس بيمن، فتتلمذ له، وكان يسترشد بتعاليمه وقدوته الصالحة.
لاحظ المتوحدون جهاد القديس الأنبا هدرا فقالوا له: ” يا أخانا الحبيب جيد هو كل شيء يُصنع بمقياس “. أما هو فأجابهم: “إن كل ما أفعله لا يقوم مقام خطية واحدة من خطاياي “. فإذ سمع الاخوة هذا الكلام اتعظوا ومضوا، وصاروا يخبروا الآخرين بما قاله لهم. وكان المتوحّدون يلتقون به ويقتدون بأفعاله، ويطلبون مشورته، كما كانوا يتعجبون من تواضعه وانسحاق نفسه.
إنفراده في البرية الداخلية:
وسمع الناس بسيرة القديس فتقاطروا عليه من كل البلدان تطلب كلمة منفعة وتتمتع بتعزيات الروح. لكنه إذ كثرت الزيارات جدًا استشار أباه الروحي أنبا بيمن وطلب أن ينفرد في البرية.
ترك مغارته بعد ذلك بثماني سنين ودخل في البرية الداخلية، وكان يسأل الله أن يختار له موضعًا لسكناه.
بعد ثلاثة أيام جاءت بعض وحوش البرية لتفترسه، أما هو فوقف يصلي طالبا من الله أن يصنع معه رحمة، ويُبعد عنه الخوف من الوحوش الكاسرة كما أخضع الأسود لدانيال. للحال صارت الوحوش تستأنس به.
الأنبا هدرا والقتالات الشيطانية:
طلب من القديس بيمن أن يطَّلِع على سيرة القديس العظيم أنبا أنطونيوس أب الرهبان ليتعلم منها قتال العدو الشرير. ومكث هناك أيامًا كثيرة يجاهد ضد إبليس وجنوده، وكان الشيطان يجربه كثيرًا. من ذلك أنه ظهر له وبيده سيف مسلول يريد قطع يديه، فصرخ القديس إلى الرب، فغاب عنه الشيطان في الحال.
استمر القديس يصنع صلوات كثيرة ونسكيات، فإذا عدو الخير الذي هو الشيطان صار يفزعه بأشكالٍ مخيفةٍ ومناظرٍ مفزعةٍ، ويظهر له في شكل نساء جميلات الصورة لكي يوقعه في شباك الخطية المهلكة. لكن القديس أنبا هدرا كان يقوى عليه ويقهره بقوة الصليب المقدس فينفضح ويضمحل”.
وفي أحد الأيام خرج من مغارته، ولما عاد وجد تنّينًا عظيمًا داخلها، فصلى إلى الرب قائلاً: ” يا ربى وسيدي، إن كانت هذه إرادتك أن أسكن مع هذا الوحش فلتكن “، ثم تطلع إلى التنين فوجده مقطعًا إلى ثلاثة أجزاء.
حدث أن سقط القديس أنبا هدرا وانطرح على الأرض بسبب نسكه الزائد، فظهر له شخص نوراني وسكب على رأسه دهنًا. للحال تقوى وشعر أن قوة إلهية قد أدركته. لكن عدو الخير لم يتركه بل كان يظهر له في أشكال مخيفة. أما هو فكان يرشمهم بعلامة الصليب فيهربوا من أمام وجهه.
كان في حرب دائمة مع الشيطان، لا ينام الليل ولا يستقر بالنهار، وكان الرب يخلصه منها. وأخيرًا حبس نفسه في قلايته، وكانوا يأتون إليه بالمرضى والمصابين بالأرواح النجسة، فيصلى على زيت ويدهنهم به فيبرأون في الحال، وكانت الأرواح النجسة تصرخ قاتلة: ” ويلاه منك يا هدرا أحرقتنا بصلواتك وطردتنا من البراري “.
معرفته للكتاب المقدس:
أتى إليه رهبان من الشام وسألوه عن مسائل غامضة في الكتب المقدسة، ففسّر لهم معانيها، فأعجبوا بعلمه قائلين: ” لقد طفنا جبالاً وأديرة كثيرة، وزرنا معلمين وفلاسفة فلم نجد من يفسر لنا هذه المسائل كما فسّرها لنا هذا القديس “.
دعوته للأسقفية:
إذ تقدم به السن ترك موضع الوحدة في البرية الداخلية وذهب إلى أحد الأديرة حيث حبس نفسه في قلاية بها.
وقد وهبه الله صنع العجائب. وفي ليلةٍ رأى في حلمٍ إنسانًا لابسًا شكل الأسقفية، جالسًا على كرسي، خاطبه قائلاً: ” تمسك بالإيمان الذي قبلته من الآباء القديسين “. ثم قام عن كرسيه وأشار بيده نحوه، قائلاً له: ” قد وهبتك هذا الكرسي… ” ثم اختفي عنه.فسجّل الأنبا هدرا هذه الرؤيا ولم يخبر بها أحدًا إلى لحظة دعوته للأسقفية.
لما تنيّح أسقف مدينة أسوان ذهب بعض من شعبها إلى الدير، وهناك اجتمعوا بالرهبان الذين حضروا من الشام، وهؤلاء قد أثنوا لهم على القديس هدرا. فذهبوا إليه وأخذوه رغمًا عنه وسافروا إلى الإسكندرية، ورسمه لهم الأنبا ثاؤفيلس بابا الإسكندرية أسقفًا عليهم.
ما أن جلس على كرسيه حتى عكف على وعظ شعبه وتعليمه طريق الحياة. فقد اهتم بالجانب التعليمي وتثبيت شعبه على الإيمان المستقيم. وكان يصلي على المرضى، ووهبه الله موهبة شفاء المرضى وصنع آيات كثيرة، كما كان يهتم بالفقراء والمساكين والغرباء، ويفتقد المحبوسين. وأكمل حياتهٍ بسيرةٍ حسنة.
نياحته:
ولما شعر بقرب نياحته بارك أولاده وودعهم وأسلم الروح بيد الرب الذي أحبه في اليوم الثاني عشر من شهر كيهك في عهد الملك المحب لله ثيئودوسيوس فناح الجميع عليه مجهزينه كما يليق بكهنوته ودفنوه في البيعة المقدسة وكان يظهر من جسده أشفية وعجائب وكان رجاءًا صالحًا لكل من يقصده بإيمان قوي ولا يستطيع إنسان أن يصف كل عجائبه.
وتعتز مدينة أسوان بجنوب مصر بشفيعها وقديسها الأنبا هدرا، وبالدير الأثري الذي يحمل اسمه الذي يرجع إلى القرن الخامس الميلادي.