القديسة مريم المصرية

إنها امرأة خاطئة، التقت فجأة مع النعمة الإلهية وأحست بمحبة الرب يسوع الواضحة في صليبه فتركت كل شئ للوقت…وتبعته

سيرتها:

هي عذراء عاشت في القرن الرابع الميلادي، أمضت حياتها الأولى في دوامة من شرور هذا العالم الجارفة، فإرتمت في ملذاته الغير مشبعة للنفس.

لم يكن لها ما يوجه حياتها سوى والداها اللذان سرعان ما انتقلا من هذا العالم، فأصبحت حرة طليقة من بعدهما إلى ما يقرب من ( 17عام ) تتفنن في إشباع ملذاتها.

القديس زوسيما:

روى القديس زوسيما لنا سيرة هذه القديسةالعظيمة في توبتها وهو راهب قس في أحد أديرة فلسطين.

وقد عاش هذا القديس في أحد الأديرة 53 سنة، وبدأت تحاربه أفكار العظمة فأرسل الله له راهبًا اقتاده إلى دير قرب نهر الأردن وأمره أن يقضي فيه بقية حياته.

كان رهبان هذا الدير من النساك الكبار الذين أضنوا حياتهم بالنسك، وكان الدير قريبًا من البرية التي أمضى فيها السيد المسيح الصوم الأربعيني، وكانت عادة رهبان هذا الدير أن يقضوا فترة الصوم الأربعيني في هذه البرية خارج الدير ولا يعودون إليه إلا يوم أحد الشعانين. كان الرهبان يتناولون الأسرار المقدسة بعد قداس الأحد الأول من الصوم ثم يخرجون للبرية، وهكذا فعل زوسيما.

رؤيته للقديسة:

قبيل نهاية الصوم وهو في طريق عودته إلى الدير أبصر شبحًا فظنه في بادئ الأمر شيطانًا ورشمه بعلامة الصليب، ولكنه تحقق بعد ذلك أنه إنسان. أسرع زوسيما – رغم شيخوخته – نحو هذا الإنسان لكنه كان يجري منه، فكان يصرخ إليه أن يقف.

فتوقف هذا الشبح ودخل في حفرة في الأرض، فتكلم هذا الشخص المجهول وناداه باسمه وقال له أنا امرأة، إن أردت أن تقدم خدمة لخاطئة فاترك لها رداءك لتستتر به واعطها بركتك.

تعجَّب زوسيما لأنها نادته باسمه وترك لها رداءه فوضعته على جسدها وسألته أن يباركها فقد كان كاهنًا، وزاد عجبه حين علمت بكهنوته وطلب هو منها أن تباركه وتصلِّي عنه.

سألها باسم المسيح أن تعرِّفه شخصيتها ولماذا أتت إلى هذا المكان وكيف استطاعت أن تبقى في هذه البرية الموحشة المخيفة، وكم لها من السنين وكيف تعيش؟

اعتراف القديسة بحياتها الأولى:

بدأت تعترف بخطاياها، وقالت له: لا تفزع من خطاياي البشعة بل فيما أنت تسمعني لا تتوقف عن الصلاة لأجلي. وبدأت تروي قصتها.

قالت أنها مصرية من الإسكندرية، ومنذ سن الثانية عشر بدأ ذهنها يتلوث بالخطية من تأثير الشر الذي كان سائدًا، وما كان يمنعها من ارتكاب الخطية الفعلية إلا الخوف المقترن بالاحترام لوالداها.

لكن ما لبثت أن فقدت أباها ثم أمها فخلا لها الجو وانحدرت إلى مهاوي الخطية الجسدية الدنسة. أسلمت نفسها للملذات مدة سبع عشرة سنة، ولم يكن ذلك عن احتياج سوى إشباع شهواتها.

ذهابها إلى أورشليم:

وفي أحد الأيام وقت الصيف رأت جمعًا من المصريين والليبيين في الميناء متجهين إلى أورشليم لحضور عيد الصليب المقدس، ولم تكن تملك قيمة السفر في إحدى السفن الذاهبة إلى أورشليم، لكنها وجدتها فرصة لإشباع لذاتها مع المسافرين.

ونظرت إلى الأب زوسيما بخجلٍ وقالت له: ” أنظر يا أبي قساوتي. أنظر عاري. فقد كان الغرض من سفري هو إهلاك النفوس “.

فقد سافرت مع زمرة من الشبان وحدث ما حدث في الطريق، وأخيرًا وصل الركب إلى أورشليم وارتكبت شرورًا كثيرة في المدينة المقدسة.

أخيرًا حلَّ يوم عيد الصليب واتجهت الجموع إلى كنيسة القيامة وكان الزحام شديدًا، ولما جاء دوري لدخول الكنيسة، وعند عتبتها وجدت رِجلَي وكأنها مُسَمَّرة لا أستطيع أن أحركها وأدخل، وكانت هناك قوة خفية تمنعني من الدخول، وكررت المحاولة أكثر من مرة دون جدوى.

أحسّسَت أني الوحيدة المطرودة من الكنيسة فالكل يدخلون بلا عائق أو مانع. عندئذ اعتزلت في مكان هادئ بجوار بوابة الكنيسة وانتهيت في فكري إلى أن منعي من الدخول يرجع إلى عدم استحقاقي بسبب فسادي.

انفجرت في البكاء وتطلعت فأبصرت صورة العذراء فوق رأسي، فصرخت في خزي: ” يا عذراء إني أدرك مدى قذارتي وعدم استحقاقي لأدخل كنيسة الله، بل إن نفسي الدنسة لا تستطيع أن تثبت أمام صورتك الطاهرة. فيا لخجلي وصغر نفسي أمامِك “.

طلبت شفاعة العذراء من كل قلبي ووعدت بعدم الرجوع لحياتي الماضية، وطلبت إليها أن تسمح لي بالدخول لأكرم الصليب المقدس، وبعدها سوف أودِّع العالم وكل ملذاته نهائيًا وطلبت إرشادها.

أحسّسَت أن طلبتي استجيبت وأخذت مكاني بين الجموع، وفي هذه المرة دخلت كما دخل الباقون بلا مانع ولكني كنت مرتعدة. سجدت إلى الأرض وسكبت دموعًا غزيرة على خشبة الصليب المقدسة وقبَّلتها.

وأخذت أصلي – دون أن أشعر بالوقت – حتى منتصف النهار وطلبت في أعماقي معونة الله بشفاعة العذراء أن أعرف ماذا أفعل، فسمعت صوتًا يقول لي: ” اعبري الأردن فهناك تجدين مكانًا لخلاصِك “.

أمضيت تلك الليلة قرب الكنيسة وفي الصباح سرت في طريقي، فقابلني رجل أعطاني ثلاث قطع من الفضة وقال لي: ” خذي ما أعطاكِ الله “.

توقفت عند خباز واشتريت ثلاث خبزات وطلبت إليه أن يرشدني إلى الطريق المؤدي للأردن. عبرت باب المدينة وأحسسَّت أني تغيرت، وصلت إلى كنيسة على اسم يوحنا المعمدان قرب النهر، وهناك أخذت ابكي واغسل وجهي بماء النهر المقدس ودخلت الكنيسة واعترفت بخطاياي وتناولت من الأسرار المقدسة.

عبرت الأردن وطلبت شفاعة العذراء وأخذت اسير في الصحراء القاحلة حتى وصلت إلى المكان الذي تقابلت فيه معك ، وكنت قد أمضيت به 45 سنة وكان الله يعولني.

محاربتها:

بناء عن سؤال القس زوسيما أخذت تروي أخبار محاربتها. فقالت أنها أمضت سبعة عشر عامًا في حروب عنيفة مع الشهوات الجسدية كما لو كانت تحارب وحوشًا حقيقية، وكانت تمر بذاكرتها كل الخطايا والقبائح التي فعلتها، وعانت من الجوع والعطش الشديدين.

ومما قالته: “مرات كثيرة أخرى كانت تهاجمني آلاف الذكريات الحسية والأفكار الدنسة، وكانت تجعل في قلبي آلامًا شديدة بل كانت تجري في عروقي مثل جمر مشتعل، حينئذ كنت أخُّر على الأرض متضرعة من كل قلبي. بل كنت أحيانًا كثيرة أبقى على هذا الوضع أيامًا وليالٍ، إلى أن يحوطني النور الإلهي مثل دائرة من نار لا يستطيع المجرب أن يتعداها “.

وكانت العذراء معينة لي بالحقيقة في حياة التوبة، فكانت طوال هذه المدة تقودني بيدها وتصلي من أجلي. ولما فرغت الخبزات كنت آكل الحشائش والجذور التي كنت أجدها في الأرض.

أما عن ملابسها فقد تهرَّأت من الاستعمال، وكانت حرارة الشمس تحرق جسدها بينما برودة الصحراء تجعلها ترتعد لدرجة أنها كان يُغمى عليها. وقالت له أنها منذ عبرت الأردن لم ترَ وجه إنسان سواه، وقالت أن الله لقَّنها معرفة الكتب المقدسة والمزامير.

القس زوسيما يباركها:

ولما انتهت من كلامها انحنت أمام القس زوسيما ليباركها، وأوصته ألا يخبر أحدًا عنها وطلبت إليه أن يعود إليها في يوم خميس العهد من العام التالي ومعه التناول المقدس، وقالت أنها ستنتظره عند شاطئ الأردن.

وفي الصوم الأربعيني المقدس في العام التالي خرج الرهبان كعادتهم، أما زوسيما فكان مريضًا بالحمَّى على نحو ما أخبرته مريم في لقائها معه. وبعد قداس خميس العهد حمل القس زوسيما جسد المسيح ودمه الكريمين، كما أخذ معه بعض البقول والبلح وذهب لينتظر مجيء القديسة عند شاطئ النهر.

انتظرها طويلاً وكان يشخص نحو الصحراء، وأخيرًا رآها على الضفة المقابلة ورشمت بعلامة الصليب على مياه النهر وعبرت ماشية على الماء. وإزاء هذه الأعجوبة حاول القديس زوسيما أن ينحني أمامها لكنها صاحت: ” أيها الأب أيها الكاهن ماذا أنت فاعل؟ هل نسيت أنك تحمل الأسرار المقدسة؟ ”

حينئذ تقدمت وسجدت بخشوع أمام السرّ المقدس وتناولت من الأسرار المقدسة. وبعد قليل رفعت يديها نحو السماء صارخة: ” الآن يا سيد تطلق عبدتك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك “.

طلبت إليه أن يحضر إليها في العام القادم ويتقابل معها في المكان الذي تقابلا فيه أولاً، وطلبت إليه أن يصلي عنها، ورشمت على النهر بعلامة الصليب وعبرته راجعة واختفت من أمامه.

نياحتها:

في العام التالي وفي الموعد المحدد توجه إلى المكان الذي التقيا فيه أولاً، ووجدها ساجدة ووجهها متجهًا للشرق ويداها بلا حركة ومنضمتان في جمود الموت، فركع إلى جوارها وبكى كثيرًا وصلى عليها صلوات التجنيز.

وحتى هذه اللحظة كان لا يعرف اسمها، ولكن عندما اقترب منها ليفحص عن قرب وجهها وجد مكتوبًا: ” يا أب زوسيما ادفن هنا جسد مريم البائسة واترك للتراب جسد الخطية هذا، صلّي من أجلي “.

اكتشف أنها تنيحت بالليل بعد تناولها من الأسرار المقدسة، ويقال أن ذلك كان سنة 421م.

عاد زوسيما إلى ديره وهو يقول: ” حقًا إن العشارين والخطاة والزناة سيسبقوننا إلى الملكوت السماوي “. وكانت سيرتها مشجعًا أكثر على الجهاد. وتعيِّد لها الكنيسة القبطية في يوم 16 برمودة من كل عام.

Share

Permanent link to this article: https://stmina.info/%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%af%d9%8a%d8%b3%d8%a9-%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b1%d9%8a%d8%a9/