باروخ النبى

ولد باروخ عام 624 ق.م فى أحد بلاد اليهودية، حول أورشليم (إر 51: 59، با1: 1). وهو من عائلة شريفة، فأبوه نيريا بن معسيا كان له أملاك وهذا شجع باروخ على تملك مزارع وكروم بعد هذا (إر45: 5)، وأخوه سرايا صار أحد الرؤساء العاملين مع الملك صدقيا (إر 51: 59).

معنى اسم باروخ “مبارك” وترجمته باللغة القبطية “مكاري”، أي “طوباوي”، وهذا يدل على نبوته التى يبارك فيها الراجعين إلى الله بالتوبة والذين سيرجعون من السبي.
في طفولته وحتى سن السادسة عشر عاصر باروخ الإصلاحات الدينية التى قام بها يوشيا الملك الصالح، فتمتع بالجو الدينى وابتعاد الشعب عن عبادة الأوثان. وفى نفس الوقت تمتع أيضاً بمعلم هذا الجيل وهو إرميا النبى- أشهر الأنبياء فى مملكة يهوذا وقتذاك- فأحبه جداً وتأثر بتعاليمه، بل ارتبط به وصار تلميذاً له.
انحرفت مملكة يهوذا بعد موت يوشيا، بتملك ابنه يهوياقيم، وبالتحديد فى السنة الثالثة من ملكه؛ حيث انتشرت عبادة الأوثان، فسمح الله لبابل أن تهجم على مملكة يهوذا وتأخذ بعض آنية الهيكل وتسبى عدداً كبيراً من شبابها النابغين، مثل دانيال النبى، وكان باروخ قد بلغ الثامنة عشر من عمره، فتأثر قلبه وحزن على ما حدث لشعبه، ولكنه في نفس الوقت تأكد من صدق نبوات معلمه إرميا النبي.
لازم باروخ معلمه إرميا وتمتع بعشرته، فرأى الله فى هذا الرجل العظيم وحزن كل يوم على ابتعاد شعبه عن عبادة الله وعبادتهم للأوثان، خاصة وأنه رأى رفض الشعب لكلام إرميا وبالأكثر رؤسائهم الدينيين، أي الكهنة والمعلمين، بالإضافة للأنبياء الكذبة الذين أحاطوا بالملك.
رأى باروخ معلمه إرميا وهو يقف بباب الهيكل ويعلن نبواته للشعب ويدعوهم للتوبة؟ لأن السبي مقبل عليهم والمدينة المقدسة ستحرق، ولكن قام عليه الكهنة وأمسكه فشحور الكاهن وسجنه (إر 20: 1، 2) فحزن باروخ جداً لقساوة قلب شعبه، بالإضافة إلى حزنه على آلام معلمه المسجون.
فيما كان إرميا في السجن ولم يكن في إمكانه الذهاب إلى بيت الرب لإعلان نبواته، طلب من تلميذه باروخ أن يسجل كل نبواته فى درج (كتاب) ويذهب ليقرأه في باب بيت الرب، فى يوم الصوم، حيث يزدحم الشعب الآتين لعبادة الله (إر 36: 6). فكان إرميا يملي النبوات على باروخ فيكتبها في الدرج. وهذا يبين إصرار إرميا على عمله النبوي، مهما منعته القيود والظروف من ذلك، وفي نفس الوقت تبين شجاعة باروخ وطاعته لمعلمه، فقد ذهب وقرأ الدرج في باب بيت الرب، معرضاً نفسه للموت من كل من يعادون إرميا (إر 36: 4، 5). بهذا الموقف وبتلمذته لمُعلمه إرميا صار باروخ شخصية قوية، وازدادت قوته مع الأيام، حتى أن بعض الشعب اعتقدوا أنه كان يؤثر على إرميا ويهيجه، ليتنبأ ضد الشعب والرؤساء (إر 43: 3)، وذلك لأن باروخ كان يبدو ذو شخصية فذة وقوية، فى حين يظهر ارميا كشخصية رقيقة المشاعر. قريب إلى الدموع.
بعدما قرأ باروخ الدرج فى باب بيت الرب، سمع بعض رؤساء الشعب الأتقياء بما جري، فأرسلوا إليه وأحضروه وطلبوا منه أن يقرأ لهم السفر، فلما سمعوا كلمات إرميا خافوا الله جداً ثم طلبوا من باروخ أن يختفي هو ومعلمه إرميا- الذي كان قد أفرج عنه (إر 36: 19). فذهب باروخ مسرعاً إلى إرميا وهربا واختفيا فى مكان بعيد عن الملك ورؤسائه. وعندما أعلموا الملك يهوياقيم بما حدث وقرأوا له ما فى الدرج، غضب جداً وقطع وأحرق الدرج، ولكنه لم يستطع القبض على إرميا وباروخ لاختفائهما (بر 36: 23).
بعد هذا أمر الله إرميا أن يملي درجاً جديداً على باروخ، فكتب باروخ كل نبوات إرميا مرة أخرى وزاد عليها إرميا- من قبل الرب- نبو ة على يهوياقيم، الذي رفض كلام الله وأحرق الدرج، مؤكدا أن بابل ستهجم على مملكة يهوذا وسيقتل يهوياقيم وتجر جثته على الأرض مثل جثة حمار (إر 36: 30)، فأطاع باروخ وكتب درجاً جديداً.
حتى هذا الوقت كان باروخ يتتلمذ عى يد ارميا ولم يعلن أية نبوة خاصة به، فلم يفعل هذا إلا بعد استشهاد معلمه- كما سنرى- وهذا يبين مدى اهتمام باروخ بالتلمذة الروحية. كما تتلمذ يشوع على موسى وأليشع على إيليا سنوات طويلة. ظهرت طاعة باروخ لمعلمه إرميا، الذي أعطاه رسالة من الله أن لا ينشغل بأمور العالم، لأن باروخ- كما ذكرنا- كان قد أمتلك مزارعاً وكروماً وممتلكات مختلفة، فقال له الله: أن كل هذا سيهدم عندما تأتي مملكة بابل ولكن الله سينجي باروخ من الموت، فأطاع باروخ وترك عنه ممتلكات العالم- وهذا يبين طاعته وزهده- وانشغل بالتلمذة على يد إرميا وكان هذا فى السنة الرابعة لملك يهوياقيم، حين بلغ باروخ التاسعة عشر من عمره.
مرت السنوات وباروخ يشارك معلمه إرميا فى احتمال الآلام واضطهاد من الشعب والرؤساء. ومات يهوياقيم الملك بيد نبوخذنصر ملك بابل وكان باروخ قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره.
بعد موت يهوياقيم الشرير تملك ابنه يهوياكين، الذي سار في الشر، مثل أبيه، فقبض عليه جيش بابل وأرسله؛ ليسجن فى بابل وملكوا بعده صدقيا عمه، وكان أيضاً شريراً ولكنه كان يبدي بعض الخضوع الظاهري لإرميا.
عندما بلغ باروخ التاسعة والعشرين من عمره، وفى السنة الرابعة لملك صدقيا (إر 51: 59) ذهب صدقيا لزيارة بابل وإعلان خضوعه لنبوخذنصر ملك بابل وأخذ معه بعض رؤسائه، ومنهم سرايا أخى باروخ، فأنتهز إرميا هذه الفرصة وأرسل مع سرايا الدرج المحتوي على نبوات إرميا والذي كتبه باروخ؛ ليقرأه في بابل أمام المسبيين، ثم يربطه في حجر ويلقيه فى نهر الفرات ويعلن أمام المجتمعين من البابليين واليهود، أنه هكذا سيعاقب الله بابل من أجل شرورها ويخربها (إر 51: 63، 64).
ظل باروخ ملازماً لمعلمه إرميا وحزن كثيراً عندما سجنه صدقيا الملك. وكان يهتم بخدمة معلمه وهو فى السجن. كان باروخ قد بلغ من العمر تسعة وثلاثين عاماً حين كان إرميا فى السجن.
وفي أحد الأيام- عندما كان يزوره باروخ – طلب إرميا منه من يحتفظ بصك شراء إرميا لحقل من ابن عمه حنمئيل، فاخذ باروخ نسختين من صك الشراء ووضعهما في إناء خزفي؛ ليبقيا مدة طويلة، إعلاناً من الله بأن شعبه، الذي سيُسبى بعد سنة واحدة من هذا التاريخ، بيد بابل سيعود إلي أرضه على يد كورش ملك مادي وفارس ويشترون أراضي وبيوتاً (إر 32: 7-15)، ففعل باروخ كما أمره إرميا.
عندما بلغ باروخ الأربعين من عمره، هجمت بابل على أورشليم وأحرقتها هى وهيكلها وقبضت على صدقيا الملك وقتلت بنيه وفقأت عينيه وأرسلته سجيناً إلى بابل. وأكرمت بابل إرميا، إذ علمت بنبواته عنها، وترك له الاختيار أن يبقى في اليهودية، أو في بابل، فبقى هو وباروخ تلميذه في اليهودية.
حاول اليهود الهرب إلى مصر، فأوصاهم إرميا بالخضوع لبابل وعدم الذهاب إلى مصر لكنهم أصروا وأخذوه بالقوة معهم وتبعه باروخ، فوصلوا إلى مصر، وبالتحديد فى تحفنحيس وكان عمر باروخ قد بلغ الحادي والأربعون من عمره. ظل إرميا يتنبأ لليهود في مصر بالتوبة وأعلن لهم أن نبوخذنصر سيهجم على مصر التى يحتمون فيها ولكنهم لم يسمعوا له، بل قاموا عليه ورجموه وكان هذا هو أصعب منظر قد رآه باروخ فى حياته. لتعلقه الشديد ومحبته لإرميا.
بعد استشهاد إرميا هجم نبوخذنصر على مصر وخربها، وفي عودته إلى بابل أخذ معه باروخ وهناك رأى باروخ اليهود في ذل العبودية وبعضهم قد عاد إلى الله بالتوبة والبعض الأخر قد انشغل بالماديات والممتلكات فى بابل، فحزن باروخ على اليهود، الذين لم يتعلموا من ضيقة السبى ولم يرجعوا إلى الله.
فى بابل كتب باروخ نبوته فى السنة الخامسة لخراب أورشليم، حين كان عمره خمسة وأربعين عاماً، وقرأها على مسامع يهوياكين ملك يهوذا المسجون فى بابل وعلى مسامع اليهود المسبيين فى بابل (با 1: 1-3). وفى هذه النبوة دعا الشعب للتوبة والرجوع إلى الله بالبكاء والصوم والصلاة (با 3: 1-8) وضمن فى نبواته كلاماً واضحاً عن تجسد المسيح (با 3: 24) والثالوث القدوس (با 4: 22)، ثم أضاف إلى نبواته رسالة من ارميا إلى المسبيين فى بابل، كان قد أملاها عليه قبل استشهاده في مصر (با 6).
عاش باروخ فى بابل سنوات طويلة يصلى من أجل شعبه ويدعوهم للرجوع إلى الله الذي وعدهم بالرجوع من السبي. وجمع باروخ تبرعات من الشعب من الفضة وأرسلها إلى يوياقيم بن حلقيا الكاهن (با 1: 10). لتقديم ذبائح عن المسبيين فى بابل ولعل الكهنة في أورشليم كانوا يقدمون ذبائح على مذبح مؤقت في خرائب الهيكل. كل هذا صنعه باروخ ليتعلق شعبه بأورشليم والهيكل الذي سيبنى فيها، فيتحمسون للرجوع من السبي.
شاخ باروخ في بابل وكان يتتلمذ على يديه أتقياء اليهود، ومنهم شاباً صغيراً هو عزرا الكاهن والكاتب، الذي كتب سفر عزرا، والذي ارتبط بمعلمه باروخ وأحبه جداً، فاستطاع أن يحصل على خلاصة فكره الروحي في شيخوخته.
عندما بلغ باروخ الثامنة والثمانين من عمره هجمت مملكة مادي وفارس على بابل واستولت عليها هى وكل البلاد التابعة لها، وشهد باروخ تحقيق كلام الله على فم معلمه إرميا وعلى فم باقي الأنبياء بالعودة من السبى، إذ أن كورش أول ملوك فارس وافق على عودة اليهود إلى أورشليم؛ ليبنوا هيكلها.
وعندما بلغ باروخ التسعين من عمره تحرك أول فوج من اليهود الراجين من السبي بقيادة زربابل وكان ذلك عام 536 ق.م، ولم يذهب معهم عزرا تلميذ باروخ؛ لتعلقه بالتلمذة على يد معلمه، فظل معه في بابل، رغم شوق عزرا الشديد للرجوع إلى أورشليم وممارسة كهنوته.
مرت سنوات قليلة بعد هذا، ثم تنيح النبي العظيم باروخ في بابل، بعد أن تجاوز التسعين من عمره بسنوات قليلة وقد أعطى مثالاً عملياً في القوة والشجاعة وفى نفس الوقت الطاعة والتلمذة. فاهتم عزرا بتشجيع اليهود على العودة إلى أورشليم، رغم أنه كان شاباً صغيراً، ومرت سنوات طويلة حوالي سبعة وخمسين عاماً، عاد بعدها عزرا بالفوج الثانى من المسبيين إلى أورشليم.

 

Share

Permanent link to this article: https://stmina.info/%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%88%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a8%d9%89/