الرسالة التاسعة للقديس الأنبا مقار الكبير

العظة التاسعة

النعمة والتجارب – الألتصاق بالرب وحده

“إن مواعيد ونبوات الله تتحقق بواسطة محن وتجارب متنوعة، وأن الذين يلتصقون بالله وحده، ينقذون من تجربة الشرير” .

قانون عمل النعمة :

1 ـ إن الفاعلية الروحانية التى لنعمة الله فى داخل النفس، تعمل عملها بصبر عظيم، وحكمة وتدبير سرّى للعقل، وفى أثناء ذلك يناضل الإنسان لأوقات وفترات طويلة باحتمال كثير، ثم ينكشف له أن عمل النعمة فيه، هو عمل كامل، وذلك عندما تمتحن إرادته بتجارب كثيرة ويتبرهن أنها (إرادته) مرضّية للروح، ويكون قد أظهر ثباتًا وصبرًا لفترة غير قصيرة. وسنبيّن أن هذا هو قانون عمل النعمة بأمثلة واضحة فى الكتاب المقدس.

أمثلة من الكتاب المقدس :

2ـ إن ما أقصده يظهر بوضوح فى حالة يوسف، فقد اقتضى الأمر فترات طويلة من الزمن لكى تتحقق مشيئة الله وقصده السابق من جهة يوسف، وتتم الرؤيا التى رآها. وقد أمتحن بآلام وشدائد وأحزان وقد احتملها جميعًا، وقد وُجد فى جميعها خادمًا كاملاً أمينًا لله، وبعد ذلك صار ملكًا على مصر وهو الذى عال أسرته وتحققت المناظر النبوية التى كان قد رآها قبل حدوثها بفترة طويلة ووصلت مشيئة الله إلى غايتها المحتومة من نحوه بعد زمن طويل وتدابير كثيرة.

3 ـ كذلك الحال مع داود، فقد مسحه الله ملكا بواسطة صموئيل النبى، وبعد أن مُسح، هرب من شاول الذى كان يطارده لكى يقتله، فما معنى مسح الله له إذًا؟ وأين الوعد الذى وُعد به أن يصير ملكًا بعدما مُسح؟ فإنه بعد أن مُسح حلّت به شدائد كثيرة وكان يتجول فى الصحارى، محرومًا حتى من الخبز ولجأ إلى الوثنيين بسبب مؤامرات شاول ضده. كل هذه المصائب الشديدة أحاطت بذلك الإنسان الذى مسحه الله ملكًا، وبعد أن تجرّب طويلاً وأُمتحن، وبعد آلام وصبر، إذ قد وضع كل ثقته وإيمانه مرة واحدة فى الله، وكأنه يقول لنفسه أن ما فعله الله بى بواسطة مسحة صموئيل النبى وما أمر الله به، لابد أن يحدث لى ولابد وأن يتحقق بدون أدنى شك، حتى وإن استلزم الأمر صبرًا كثيرًا، وبعد فترة من الوقت تمت مشيئة الله وتملّك داود بعد كل تجاربه. وحينئذ أشهرت كلمة الله، وتبرّهن أن المسحة التى مَسَحه بها على يدىّ صموئيل النبى، إنما هى أكيدة وحقيقية.

4 ـ وهكذا الحال مع موسى فقد سبق الله فعرفه، وسبق فعيّنه ليكون حاكمًا ومنقذًا للشعب، وجعله يصير ابنًا لابنة فرعون، وتربّى فى غنى وبهاء ومجد الملوك، وتعلّم ” بكل حكمة المصريين” (أع 12:7) ولما بلغ سن الرجولة وصار عظيمًا، رفض كل تلك الأشياء مُفضِلاً بالأحرى شدائد المسيح وعاره، كما يقول الرسول “على أن يكون لى تمتع وقتى بالخطية” (عب25:11).

وهرب من مصر وصرف وقتًا طويلاً يعمل كراعٍ للغنم، وهو الذى تربى كابن ملك وعاش فى لذات القصر ونعيمه، وأخيرًا إذ وُجد مقبولاً لدى الله وأمينًا من خلال الصبر الكثير ـ إذ أنه احتمل تجارب عديدة ـ

أصبح بعد ذلك منقذًا وقائدًا وملكًا لإسرائيل، وقال الله له قد جعلتك ” إلهًا لفرعون” (خر1:7) وبواسطته ضرب الله مصر بضربات كثيرة وأظهر بواسطته عجائب عظيمة على فرعون، وأخيرًا أغرق المصريين فى البحر، فانظر بعد كم من الوقت ظهرت وأعلنت مشيئة الله وقصده، وبعد كم من التجارب والشدائد تحققت هذه المشيئة.

5 ـ وهكذا أيضًا مع إبراهيم فإن الله كان قد وعده منذ زمن طويل أن يعطيه ابنًا، ولكنه لم يعطه له فى الحال، بل خلال سنوات طويلة حلّت به تجارب وضيقات! ولكن إبراهيم احتمل بصبر كل ما يأتى عليه وتقوى تمامًا بالإيمان موقنًا أن الذى وعد هو صادق ولا يمكن أن يكذب، بل سيتمم كلمته، وهكذا إذ آمن نال الموعد.

6 ـ ونوح أيضًا، لما أمره الله وله من العمر خمسمائة سنة، أن يبنى الفلك، وأخبره أنه سيجلب طوفانا على العالم، ولم يأت الطوفان إلا عندما كان نوح ابن ستمائة سنة، فظل منتظرًا بصبر مائة سنة ولم يشك فى قول الله له بل تقوى بالإيمان موقنًا بأن ما تكلم الله به لابد أن يحدث، وإذ وجد مقبولاً بسبب نية قلبه وإيمانه وصبره، خَلُّص هو وأهل بيته فقط، لأنه حفظ الوصية بنقاوة.

امتحان الإرادة وطاعة الوصايا :

7 ـ لقد استخرجنا هذه البراهين من الكتب المقدسة لكى نبيّن أن نعمة الله فى الإنسان، وموهبة الروح القدس المعطاة للنفس المؤمنة، تعمل مع جهاد كثير، وصبر عظيم وطول أناة، وتجارب وامتحانات، إذ تمتحن إرادة الإنسان الحرة بكل أنواع الشدائد. فإذا لم تحزن الروح فى أى شئ، بل وجدت موافقة للنعمة بطاعتها لجميع الوصايا، فإنها تحسب حينئذ أهلا

للحصول على الحرية من الشهوات وتنال ملء التبنى بالروح ـ المتكلم عنه فى سر ـ وتنال الغنى الروحى، والمعرفة والحكمة التى ليست من هذا العالم، هذه النعم التى قد أُعطى للمسيحيين الحقيقيين أن يصيروا شركاء فيها. ولأجل هذا فإنهم أعلى من كل ذوى الفطنة والمعرفة والحكمة من أهل العالم الذين لهم روح العالم.

8 ـ فإن الشخص الروحى ” يحكم فى كل شئ” (1كو15:2) كما هو مكتوب. إنه يعرف كل إنسان، ومن أين يأتى بافكاره وكلامه وما هو موقفه والدرجات والمقاييس التى هو فيها، ولكن ليس أحد من أولئك الذين لهم روح العالم يستطيع أن يعرف الشخص الروحى أو يحكم فيه، إنما يستطيع أن يعرفه ذلك الذى له الروح السماوى ـ روح اللاهوت ـ مثله، وبذلك فإنه يكون له نفس معرفته كما يقول الرسول ” قارنين الروحيات بالروحيات، ولكن الإنسان الطبيعى لا يقبل الأشياء الخاصة بروح الله لأنها فى نظره جهالة، أما الروحى فيحكم فى كل شئ، وهو نفسه لا يحكم فيه من أحد” (1كو13:2ـ15) فمثل هذا الإنسان ينظر إلى كل الأشياء التى يفخر بها العالم، ينظر إلى كل غنى العالم ولذاته وتمتعاته ـ بل وحتى معرفته ذاتها ـ وإلى كل الأشياء المختصة بهذا الدهر كأشياء مرفوضة وكريهة عنده .

نار حب المسيح :

9 ـ وكما أن الإنسان الذى تتملكه الحمى الشديدة، يكره ويرفض أحلى الأطعمة والأشربة التى تقدم له بسبب اشتعال الحمى فيه، وشدة تأثيرها عليه، وهكذا الذين يشتعلون بالشهوة المقدسة، شهوة الروح، واشتياقه، وتجرح نفوسهم بالمحبة، محبة الله، وتشتعل فيهم نار المحبة

السماوية بشدة تلك النار التى ” جاء الرب ليلقيها على الأرض وهو لا يريد إلا اضطرامها” (لو49:12) ويلتهبون بالشهوة السماوية للمسيح، هؤلاء كما قلنا سابقًا، يعتبرون كل الأشياء المجيدة والثمينة الخاصة بهذا العالم كأنها أشياء حقيرة وكريهة بسبب نار حب المسيح التى تحصرهم وتشعلهم وتضرمهم ليميلوا بكل قلوبهم إلى الله وإلى الخيرات السماوية ـ خيرات الحب الإلهى. ذلك الحب الذى لا تستطيع كل الأشياء سواء فى السماء أو على الأرض أو تحت الأرض ـ أن تفصلهم عنه، كما يشهد الرسول قائلاً: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف الخ.. لا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التى فى المسيح يسوع ربنا” (رو8 :35ـ39).

الانشغال بالهدف الواحد :

10ـ ولكن من غير الممكن لأى إنسان أن يقتنى نفسه (لو 19:21) وأن يقتنى المحبة السماوية ـ محبة الروح، بدون أن يجعل نفسه غريبا عن كل الأشياء المختصة بهذا العالم، ويبذل نفسه فى طلب حب المسيح، ويتجرد عقله من كل الاهتمامات المادية والارتباكات الأرضية لكى يكون مشغولاً انشغالاً كليا بالهدف الواحد، ويتصرف فى كل هذه الأشياء بواسطة الوصايا كلها، حتى أن كل اهتمامه وسعيه وكل انهماك وانشغال نفسه، يكون منحصرًا فى اكتشاف الجوهر العقلى غير المادى، وفى كيفية تزيّين النفس بالوصايا والفضائل، وبالزينة السماوية ـ زينة الروح، وبالشركة فى نقاوة المسيح وقداسته ـ حتى إذا تخلى عن كل شئ، وتحرّر من كل العوائق الأرضية والمادية، وانطلق حرًا من المحبة الجسدية، سواء كانت تعلقًا بالوالدين أو الأقرباء، فإنه لا يدع عقله

أيضًا ينشغل أو يرتبك بأى أمر آخر مثل السلطان، أو المجد العالمى، أو الكرامات، وصداقات العالم الجسدية، أو أى أفكار أرضية أخرى بل يصير كل اهتمام عقله وانشغاله وتلهفه منحصرًا فى طلب جوهر النفس العقلى، وبكل قلبه ينتظر بتوقع ورجاء مجىء الروح عليه، كما يقول الرب: “بصبركم اقتنوا أنفسكم” (لو19:21) ” وأيضا اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم” (مت33:6).

11 ـ فالإنسان الذى يسعى هكذا ويجتهد، ويكون محترسا دائمًا، سواء بالصلاة أو بالطاعة، أو بكل نوع من الأعمال الإلهية، هذا الإنسان يستطيع أن ينجو من ظلمة الشياطين الأشرار.

الالتصاق بالرب وحده :

فالعقل الذى لا يهمل تفتيش ذاته ولا يهمل طلب الرب، يستطيع أن يقتنى نفسه ـ النفس التى كانت فى هلاك الشهوات ـ يقتنيها بتقديم نفسه كأسير لمحبة الرب بكل غِيرة وقوة، وبالالتصاق به وحده، كما هو مكتوب: ” مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2كو5:10)، لكي بواسطة مثل هذا السعى والاشتياق والطلب يمكن أن يصير العقل ” روحا واحدا مع الرب” (1كو17:6) وهذه هى عطية المسيح ونعمته التى تحل فى إناء النفس المستعدة لكل عمل صالح، و” التى لا تزدرى بروح الرب” (عب29:10) باختيارها وإرادتها الذاتية أو بانحرافات هذا العالم، وأمجاده، ورئاساته، ولذاته الجسدية، وألفة الأشرار ومعاشراتهم.

12 ـ فحينما تخصص النفس ذاتها كلها للرب، وتلتصق به وحده وتسير حسب وصاياه، وتعطى روح المسيح حقه من الإكرام ـ الروح الذى

قد أتى عليها وظللها ـ فإنها تحسب حينئذ أهلا لأن تصير روحًا واحدًا وكيانًا واحدًا معه، كما يقول الرسول: ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو17:6) أما إذا سلّم الإنسان نفسه للهموم أو لطلب المجد أو العظمة أو الكرامات البشرية، وسعى وراء هذه الأشياء واختلطت نفسه وامتزجت بالأفكار الأرضية، أو ارتبطت وتقيّدت بأى شىء من أمور هذا العالم، فإن مثل هذه النفس إذا اشتاقت أن تنطلق وتنجو وتهرب من ظلمة الشهوات التى قيّدتها بها قوات الشر، فإنها لا تستطيع أن تهرب، وذلك بسبب محبتها لأعمال الظلمة، ولأنها لا تبغض أعمال الشر بغضًا كاملاً .

13 ـ لذلك فلنعد أنفسنا للمجىء إلى الرب بكل عزم القلب وبإرادة غير منقسمة، ونصير تابعين للمسيح، لنتمّم كل ما يريده، و” لنذكر وصاياه لنعملها” (مز18:103).

ولنفصل أنفسنا تمامًا عن محبة العالم، ونربط نفوسنا بالرب وحده، ويكون هو وحده شاغل عقولنا ويكون هو همّنا وهو مطلبنا وحده. وإذا كان يلزمنا أن ننشغل بعض الشئ أيضا بالجسد، وبالأشغال الموضوعة علينا، ومن أجل الطاعة لله، فحتى فى هذه الحالات، لا ندع عقلنا يبتعد عن محبة الرب وطلبه والشوق إليه، وهكذا إذ نسعى ونجتهد بقلب يقظ، سائرين فى طريق البر بقصد مستقيم، ونحترس دائمًا لأنفسنا، فإننا ننال موعد روحه، ونخلص بالنعمة من هلاك ظلمة الشهوات التى تحارب النفس، فنصير حينئذ أهلاً للملكوت الأبدى ويوهب لنا أن نتنعم كل الأبدية مع المسيح، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.

Share

Permanent link to this article: http://stmina.info/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%b3%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b3%d8%b9%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%82%d8%af%d9%8a%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%86%d8%a8%d8%a7-%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84/