قايين وهابيل (2)

شخصية قايين:

عندما نتأمل قصة قايين كما وردت في سفر التكوين (4: 1-16) بالإضافة إلى ثلاث آيات أخرى وردت في العهد الجديد (عب 11: 4، 1يو 3: 12، يه 11) نستطيع أن نرى شخصية قايين وما كانت تتصف به، وإذا كان من المتعذر الإحاطة بها جميعاً، فعلى الأقل نقدر أن نشير في كلمات إلى أهمها وأظهرها، ولعلها :

• الضراوة والوحشية:

فإن كان فمجرد فكرة أن يقوم إنسان على شخص آخر ويقتله فكرة وحشية مجردة من الإنسانية فكيف يكون الحال إذا كان هذا الإنسان شقيقه!!!

• الكبرياء والاعتداد بالذات:

مما لا شك فيه أن قايين كان متكبراً، صلفاً، شديد الاعتداد بالنفس، والذات، ويبدو هذا بوضوح من الطريقة التي قدم بها قربانه لله، إذ كان ينظر الى تقدمته جيدة وسيقبلها اللـه بلا شك، ولذلك اغتاظ عندما لم يقبلها اللـه وفى نفس الوقت قبل قربان هابيل، بل أن سقوط وجهه بعد التقدمة يدل إلى حد كبير على أنه كان في الأصل ذا طبيعة متعالية شامخة !!

• الحسد:

خطية الحسد تملكت قايين وأسقطت وجهه عندما رفض الله قربانه وقبل قربان أخيه.

وللأسف فإن خطية الحسد تولد وتنمو وتثمر في الحال، إذ يكفي أن يرى الإنسان غيره يفضل عليه، حتى يشعر في التو واللحظة أن نيران الجحيم بأكملها قد استعرت فيه. وهى مثل النار الآكلة التى تأكل كل نعمة وبركة روحية ودائماً ما تكون أول ضحاياها المحبة.

• الأنانية وحب الذات:

وهل هناك من شك في أن قايين كان أنانياً، بل كان غارقاً في الأنانية وحب الذات؟!! ألم ير الدنيا وكأنما هي أضيق من أن تتسع له ولأخيه، وكأنما لا تستطيع أن تحملهما معاً متعاونين متحابين متساندين؟!! بل ألا تبدو هذه الأنانية في قوله لله: “أحارس أنا لأخي” وهي عبارة إن دلت على شيء، فإنما تدل على الذاتية وعدم الاهتمام بالآخرين؟!!

هناك صورة مشهورة لمصور بريطاني عنوانها: “أحارس أنا لأخي” وهي عبارة عن مقعد حجري على نهر التايمز، وقد جلس عليه ستة أو سبعة من التعساء البؤساء المشردين، ممن لم يكن لهم مكان في المدينة، فأتوا إلى ذلك المكان ليقضوا فيه ليلتهم، وتراهم في الصورة وقد ناموا وهم جلوس على المقعد، وكان ثلاثة منهم من العمال العاطلين، ورابع من الجنود المسرحين، وإلى جواره امرأة تحتضن طفلها وتميل برأسها على زوجها الجالس إلى جانبها، والجميع مستغرقون في النوم، وعلى مقربة من المكان فندق عظيم، يتلألأ بأنواره الفخمة التي يسكبها هنا وهناك!!.. والمعنى الذي يقصده المصور من صورته هذه، واضح وظاهر، إذ أن هؤلاء البؤساء ليس لهم مكان بين أخوتهم من رواد الفندق الفخم القريب !!

• الخداع والمكر

هما من الصفات البارزة في قايين فقد جعلت فى استطاعته أن يخفي في نفسه أمر مؤامرته وغدره، ثم يدعو أخاه إلى الحقل دون أن ينتبه هابيل الى نية أخيه. بل انه استغل ثقة أخيه ليخدعه ثم يقتله.

• الكذب:

كذب قايين واضح في الجواب الذي رد به على الله عندما سأله قائلاً: “أين هابيل أخوك” إذ قال: “لا أعلم”، وليس عجباً أن يكذب قايين، بل العجب ألا يكذب وهو من الشرير (أى الشيطان)، فقد قال السيد المسيح عن الشيطان “متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 8: 44)

 

خطايا قايين:

لا نستطيع أن نقوم بحصر وإحصاء لخطايا قايين لان فاحص الكلى والقلوب هو اللـه، ولكن من التأمل فيما كتب عنه فى الكتاب المقدس نستطيع أن نرى بعض الخطايا مثل:

• البر الذاتى:

يعتقد بعض المفسرين أن قايين كان يشعر أنه بار وبلا خطية ولذلك قدم قربانه من ثمار الأرض ولم يقدم ذبيحة كأخيه هابيل. وكما هو معروف فى العهد القديم أن الخاطئ يجب أن يقدم ذبيحة تسفك دمها حيث أن ”بدون سفك دم لا تحصل مغفرة“ (عب 9: 22)

• قتل هابيل أخيه:

وهى خطية ارتكبها قايين مع سبق الإصرار دون أن ينتفع من تحذير الله وإنذاره، وقد اتسمت هذه الخطية على الأقل بعدة سمات، إذ كانت:

أولاً – الخطية القريبة من الباب: فقد قال له اللـه “إن أحسنت أفلا رفع وإن لم تسحن فعند الباب خطية رابضة”.

ثانيا – الإصرار: فقايين لم يقم بقتل أخيه هابيل فوراً بل قتله بعد تقديم القرابين بفترة إذ يقول الكتاب ”وكلم قايين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا في الحقل“ وخلال هذه الفترة لم يراجع قايين نفسه ولم يتب.

ثالثا – وحشيتها: ففكرة قتل إنسان هى فكرة بشعة وأن يكون هذا القتيل هو أخيه فهى فكرة لا يمكن لعقل سوى أن يقبلها. ولذلك قال أحد الآباء أن اللـه عندما حذر قايين شبه الخطية بوحش عندما قال له ”عند الباب خطية رابضة “.

رابعاً – خطية ارتكبت بيد رفيعة: فقد كان من الممكن لقايين أن ينتصر عليها لو أراد، ولكنه ارتكبها بإصرار وعناد قلب. فبالرغم من تحذير اللـه له وتشجيعه إياه عندما قال له ”وأنت تسود عليها“ إلا انه لم يسمع لصوت اللـه وقام بقتل أخيه.

• رفض التوبة:

البعض يقول أن قايين لم يتب، ولكن فى الحقيقة أن قايين رفض التوبة والدليل على ذلك:

+ عندما كانت الخطية فكرة لم يستجب لتحذير اللـه ” فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها “ (تك 4: 7)

+ خلال الفترة بين تقديم القرابين وقتله لأخيه لم يصرخ الى اللـه طالباً المعونة والنصرة.

+ عندما ارتكب الخطية لم يشعر بالندم ولم يطلب المغفرة.

• قساوة القلب:

الإصرار على رفض التوبة وسماع صوت اللـه جعله يصل الى مرحلة قساوة القلب. حتى أن اللـه عندما بدأ يوبخه على خطيئته قائلاً له ” “أين هابيل أخوك ؟“ كانت إجابته قاسية ”لا أعلم! أحارس أنا لأخي ؟“.

وهنا لم يكن هناك طريق آخر سوى اللعنة والعقوبة.

بل أن قايين بعد أن لعنه اللـه وعاقبه قال ”ذنبي أعظم من أن يحتمل“ وكأنه يشتكى ليس من ثقل الخطية ولكن من ثقل العقوبة.

 

هابيل البار

فليعطنا الرب بركة هابيل البار، أول من ذكر الكتاب أنه قدم محرقة الرب، وذبيحة مقبولة، نذكرها باستمرار في كل قداساتنا. فنقول في مقدمة أوشية بخور باكر “يا الله، الذي قبل إليه قرابين هابيل الصديق.. اقبل إليك هذا البخور من أيدينا نحن الخطاة”..

وذبيحة هابيل الصديق تعطينا فكرة عن أهمية التقليد في الكنيسة. لأن هابيل في تقدمته لم ينفذ وصية مكتوبة، ولم تكن هناك شريعة مكتوبة في أيامه، ولا وصية مكتوبة تأمر بتقديم المحرقات.. إنما أخذها هابيل عن أبيه، الذي أخذها من الله لم تكن هناك وصايا مكتوبة أيام هابيل. ولكن كان هناك التقليد أو التسليم. وجيل يسلم جيلاً وصايا الرب. وظل الأمر هكذا في كل ذبائح نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب، إلى أن وصلت إلينا الشريعة المكتوبة على يد موسى النبى، بعد آلاف من السنين عاشتها البشرية بالتقليد والتسليم من الآباء..

وجميل جداً هو قول الكتاب عن تقدمة هابيل البار: ”وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها“ (ع 4) لقد قدم البار أفضل ما عنده للرب. بل أنه نفذ وصية البكور، قبل أن يقول الرب على يد موسى النبى ”قدس لى كل بكر، كل فاتح رحم.. إنه لى“ (خر 13: 2).

أتراه قدم البكور، بروح النبوة، قبل الوصية المكتوبة؟ أم تراه فعل ذلك عن طريق التقليد والتسليم أيضاً؟ أم هو القلب البار الحساس الذي يدرك مشيئة الرب ورغبته، دون أن يتلقنها من معلم..؟

إنه هابيل الذي شهد له أنه بار، وشهد الله لقرابينه. ”وبه وإن مات يتكلم بعد“ (عب 11: 4) ولقد ذكره بولس الرسول في مقدمة رجال الإيمان: فقال ”بالإيمان، قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين“ (عب 11: 4). إذن لم تكن هذه الذبيحة مجرد أمر تعوده هابيل، أو تسلمه بلا فهم. وإنما كان عملاً من أعمال الإيمان ”به شهد له أنه بار“..

إن هابيل يمثل الإيمان وهو بكر، في بداية معرفته. إنه أول إنسان في العالم، وصف بكلمة الإيمان.

ترى ماذا كان الإيمان في أيام هابيل؟

إنه على أية الحالات كان بداية لذلك المبدأ اللاهوتى القائل ”بدون سفك دم لا تحصل مغفرة“ (عب 9: 22). الخطية كشفت عرى الإنسان آدم، والذبيحة غطته، حينما صنع له الله أقمصه من الجلد (تك 3: 21)، ورفض أن يغطى بورق التين، وبشئ من ثمار الأرض.

وعرف هابيل هذه الحقيقة: الله يريد الدم لا ثمار الأرض. فقدم الدم من أبكار غنمه ومن سمانها. بينما قدم قايين من ثمار الأرض. وكأنه لا يؤمن بما حدث لأبويه..

وكانت ذبيحة هابيل رمزاً لذبيحة السيد المسيح. وكان هابيل في ذبيحته كاهناً للرب. ولم يكن قايين كذلك..

ولم يذكر الكتاب خطية ارتكبها هابيل، بل شهد له السيد المسيح نفسه أنه بار (مت 23: 35). ويذكرنا بالبر الذى يناله كل من يقدم ذبيحة للرب.

أنستطيع أيضاً أن نقول إن هابيل كان أول شهيد:

لقد قتل لأجل بره، وبسبب ذبيحته التي قبلها الرب، ورضى عنها إنه أول دم بشرى يتقبله الرب.

إنه باكورة الدماء الزكية المقدسة التي تقبلتها السماء، عبر الأجيال الطويلة..

إنه الباكورة التي قدمت بكورها للرب.

وحسناً إنه انتقل إلى السماء بعد تقديمه الذبيحة.

إنتقل وهو في حالة بر، مقدس بالذبيحة التي قدمها.

وعزيز عند الرب موت أتقيائه.

 

 

 

Share

Permanent link to this article: http://stmina.info/%d9%82%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d9%86-%d9%88%d9%87%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%84-2/