شخصيات فى أيقونة الفداء (2)

عند التأمل فى أحداث الصلب والقيامة نجد بعض الشخصيات التى تظهر بوضوح فى هذه الأيقونة، بعضهم مثل نجوم مضيئة تعلن أثر عمل الروح القدس فى البشرية فيظهر فى صورة المحبة النقية والتوبة الصادقة، أما البعض الآخر فمثل بقع سوداء توضح حال البشرية عندما ترفض عمل الروح القدس فيها فتصبح خائنة خائفة وفاقدة للرجاء.
من هذه الشخصيات:
4- بيلاطس البنطى
هو الوالى الذى حوكم أمامه السيد المسيح, والاسم بيلاطس معناه: “المتسلح برمُح”.
وُلد بيلاطس وهو الوالى الخامس على اليهودية سنة 10 ق.م. فى روما, والبعض يقول في سيفيل (أشبيلية) وقد عمل ضمن الحرس الإمبراطوري, خدم فى ألمانيا, وقضى فترة فى روما بعد إنتهاء مدته, وكان عليه إما أن يترك السياسة فيتحول إلى الأعمال الحرة أو يواصل فى الخدمة العسكرية ليترقى حيث يصبح وزيراً أو مسئول مقاطعة.
شخصيته:
فقد ورد عنه أنه جاد الملامح مربّع الوجه, شعره مُجعّد رمادى داكن. وحين توجه إلى اليهودية كان فى سن الخامسة والثلاثين, وكانت هيئته رومانية مثالية, وكان سجله العسكرى مشرفاً, عمل فى إدارة عسكرية مع الفيلق الثانى عشر وقام بإخماد ثورة كبيرة- من خلال الخطابة والقوة معاً, امتدحه سيجانوس المسئول الرومانى الكبير آنئذ وأسهم ذلك فى شهرته.
تعيينه والياً على اليهودية:
كان فاليروس جانوس, الذى تولى حكم اليهودية لمدة إحدى عشرة سنة قد ملّ من اليهودية, ووافق الإمبراطور طيباريوس قيصر على استبداله, وأقترح سيجانوس اسم بيلاطس, فوافق, ووصل راتبه السنوى مائة الف سسترس (عشرين الف دولار) مع الوعد بالزيادة متى نجح فى مهمته, وكان بيلاطس يعرف جيداً أنه لا راحة بين روما واليهود, فمنذ أن غزاها بومباى قبل تسعين عاماً قام اليهود خلالها باثنتين وعشرين ثورة قُتل فيها الكثيرين. وقد صادق طيباريوس قيصر على تعيين بيلاطس فى منتصف عام 26م (فى السنة الثانية عشر من ملكه).
تزوج بيلاطس من “كلوديا بروكولا”, ورغم وصف بعض المؤرخين له وصفاً سلبياً، فإن الكتابات المتاحة تتعاطف معه وترى فى استمراره أحد عشر عاماً دليل نجاح, وقد أدار الكثير من الأزمات بحكمة, والعجيب أن السامريين هم الذين تسببوا فى إقصائه عن الحكم وليس اليهود!
مشروع المياه:
وهو المشروع الذى أراد أن يموله من خزينة الهيكل, ولكن اليهود ثاروا ثورتهم الثالثة والعشرين ضد روما واستطاع بيلاطس بحيلة أن يستولى على الأموال الآتية من بابل كتقدمات للهيكل, وهنا ثار الحجاج الجليليون عندما جاءوا فى الفصح وعلموا بما حدث, فأعمل الجنود الرومانيون السيوف فيهم, وهذا هو المقصود بأن بيلاطس خلط دماء الجليليين بذبئحهم (لو 1:13).
بيلاطس والمسيح:
اعتبر بيلاطس المسيح فيلسوفاً يحث على الفضيلة ولم يُبلغ عن أى شغب بخصوصه, والرومان بشكل عام لم يضطهدوا المسيحيين (على الأقل فى البداية) إلا بسبب شكاية اليهود ضدهم.
كان بيلاطس قد كلُف السنهدريم بجمع أخبار يسوع, وتقول بعض مصادر من التقليد أن قيافا مضى ليلاً إلى بيلاطس البنطى فى مسكنه، وأطلعه على القضية واستطاع إقناعه بأنه من الأفضل التخلص من ذاك المشاغب (حسب تصوره) قبل احتفالات الفصح، بعد أن قرروا القبض عليه فى العيد ولكنهم تراجعوا لئلا تندلع المظاهرات المؤيدة له فتأتى الخطة بنتيجة عكسية، وحاول قيافا إقناع بيلاطس بأنهم قد وفروا عليه عناء المحاكمة وأخذ الأقوال بحجة الحرص على وقته، واتفق معه على أن يقوم فى الغد بالتصديق على الحكم بموته ولكن بيلاطس فى الصباح فاجأهم بأنه سيعيد النظر فى القضية برمتها وعندما جلس بيلاطس ليحاكم يسوع فوجئ بشاب نبيل, وسيم, مهيب الطلعة, فخاف منه! فسأله: “أنت ملك اليهود؟” وأجابه السيد: “أَمِنْ ذاتك تقول هذا” (يو34,33:18) لم يجد بيلاطس فى السيد المسيح ما يستحق عليه الموت, بل مجرد خلاف حول تفسير الناموس، فأيقن إنه برئ وإنه أسلم إليه حسداً، فأتجه إلى اليهود يسألهم: “أيَة شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟” مما ضايق قيافا جداً وجعله يهدد بيلاطس ويهيج الشعب ضده بأنه فى حالة أطلاق سراح يسوع سيكون مقاوماً للقيصر, والعجيب هنا أن قيافا عندما فشل فى الدين لجأ إلى السياسة, أى أنه عندما لم يستطع أن ينتزع من بيلاطس الحكم بصلب المسيح بسبب المبررات الدينية التى ساقها إليه بدأ فى الضغط السياسي (يو 19 : 4-14).
ولكن خطية بيلاطس أنه لم يقُم العدل (يقول القانون فى روما أقِم العدل ولو انطبقت السماء على الأرض) وفى النهاية صرخ بيلاطس : “إنى برىء من دم هذا البار!” (مت 24:27) , ومن ثم قام بغسل يده. عند ذلك أطلق اليهود السهم الأخير فى جعبتهم وهددوه قائلين: “إن أطلقت هذا فلست مُحباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يُقاوم قيصر!”(يو12:19). وكانت عقوبة تلك الخيانة تسمى crimen caesaris وهى الإعدام , وعلى العكس منها “محب لقيصر” amicus caesaris وتعنى قدّم أعمالاً جليلة لقيصر والدولة, هى المكافأة الكبيرة, هنا فقد غيّر بيلاطس موقفه وتغير بالتالى سير القضية.
محاولات إطلاق سراح السيد المسيح:
1- تحويل القضية إلى هيرودس عندما سمع أنه جليلي, ولكن هذا رفض بدوره لئلا يكرر مأساته مع المعمدان.
2- قدم حلاً وسطاً بجلده واطلاق سراحه, ولكنهم رفضوا (لو16:23, يو1:19)
3- اعلانه أن المتهم برىء (لست أجد فيه علة).
4- احكموا عليه بحسب ناموسكم (ليبرر نفسه) ولكنهم رفضوا أيضاً متعللين أنه ليس من حقهم قتل أحد.
5- غسل يديه, وهو العلامة المعروفة للتبرء من أمر ما.
6- كما عرض عليهم صفقة استبدال باراباس بيسوع, ولكنهم أصرّوا على العكس.
7- استعطاف بيلاطس للمسيح (لى سلطان أن أطلقك) ولكنهم هددوه بأنه ليس مُحب لقيصر.
بعد الصلب:
يقول التقليد أن بيلاطس رأى فى يديه دماً, فلما غسلهما صار الدم يصرخ: “أنا برىء من دم هذا البار”. وعندما كتب اللافتة “يسوع الناصرى ملك اليهود” كان يعبر عن سخريته وضيقه من اليهود, فها هوذا ملككم معلق على الصليب, وأن سلطان روما على اليهود, فهى قتلت حتى الذى قيل إنه ملك اليهود, وإن الذى حُسِب ملكاً عليهم صُلِب! فلما احتجوا عليها رد عليهم كطفل عنيد غاضب “ما كتبت قد كتبت” (يو22,19:19).
آخر أخبار بيلاطس:
لم يتابع بيلاطس قضية يسوع و أتباعه فيما بعد, بل نسيها كليةً ولكن محور تقريره المرفوع إلى القيصر فى تلك السنة كان قضية يسوع الناصرى, أما نهايته فقد كانت عندما تسلّم خطاب مارشيللوس” والى سورية و المسئول عنه, فسلّم الحكم و أتجه إلى روما (وما لم يستطع اليهود فعله قام به السامريون) حيث توجّب عليه الدفاع عن نفسه فى قضية “مذبحة بلا مبرر” وان كان استمراره فى الحكم إحدى عشرة سنة يمثل نجاحاً بذاته!.

5- بروكولا
بروكولا: اسم تأنيث لعشيرة تسمى البروكليين, مثل قولنا سامرية (أى تتبع عشيرة السامريين) وقد شاع اسم بروكولا Procula من بروكليا Proculia , أما اسمها الكامل فهو “كلوديا بروكولا” والعجيب أن اسم بروكولا مقتبس من لفظة تعنى “منبوذة”.
هى واحدة من شخصيات الظل فى دراما الصلب, إنها وثنية رغم محاولات البعض القول بأنها كانت مسيحية أو يهودية فى ذلك الوقت, وحتى إن كانت قد صارت مسيحية, فمن المعتقد أن هذا لم يحدث قبل صعود السيد المسيح. ولكن ورغم أنها كانت وثنية فى وقت أحداث القبض على المسيح ومحاكمته, إلا انها متدينة بشكل عام وتخشى الآلهة وتتأثر بالمعجزات ولها قلب طيب. وعندما عين طيباريوس قيصر بيلاطس والياً على اليهودية بتوصية من سيجانوس (رجل القصر القوى) كان بيلاطس مايزال خطيباً لــ “بروكولا” وكانت هى ماتزال فى السابعة عشر من عمرها.
كان جد بروكولا شخصاً مشهوراً يدعى “جرايوس بروكوليوس”, وكان صديقاً لأغسطس قيصر, وربما كانت هناك صلة قرابة بين العائلتين. ورثت بروكولا مقر العائلة بالقرب من “ميسينا” حيث تربت مرفهة متدينة, فى حين لم يكن بيلاطس متديناً (وان لم يكن متعصباً بطبعه ضد أى ديانة), عندما تزوج بيلاطس من بروكولا لم تكن عائلته فى مستوى ثراء عائلة البروكليين, ولكن جمع العائلتين حبهم للفروسية ومالها من التاريخ العسكرى, وقد تزوجا فى 14 يونيو سنة 26م. وعندما وصلت لليهودية صارت لها علاقات حميمة مع نساء قيصرية وأورشليم, واهتمت بقضايا الولاية, ولكن مع ذلك لم يكن بيلاطس يقبل الأخذ برأيها كثيراً.
حلم بروكولا:
أتاحت الحفلات الكثيرة التى شاركت فيها بروكولا على مدار ثلاث سنوات التعرف عن كثب على شخصية المسيح و تعاليمه ومعجزاته, ومن ثم شعرت أنه يمكن أن يكون نبياً وربما إلهاً, ومن هنا تحمست لقضيته وهابته وأحبته. ولا شك أن أحاديث طويلة دارت بين بيلاطس و بروكولا عن شخصية يسوع المسيح وما يدور حوله من جدل, ومن المؤكد أن أهم تلك الأحاديث تلك التى دارت ليلة محاكمته, لا سيما بعد تلك الزيارة المشبوهة عندما مر رئيس الكهنة قيافا به فى منزله للاتفاق على تسوية القضية لصالح أعداء يسوع.
بكّر بيلاطس فى الخروج إلى دار الولاية بينما كانت هى ماتزال فى فراشها, وقد استيقظت لاحقاً من نومها مذعورة, فأسرعت و تناولت قرطاساً وربما قرصاً من الشمع (وهى طريقة متبعة فى ذلك الوقت فى المراسلات) لتكتب رسالة تحذيرية توسلية, حملتها لأحد حراسها إلى بيلاطس وهو جالس على كرسي القضاء “إياك وذلك البار, لأنى تألمت اليوم كثيراً فى حُلم من أجله”. (مت 27: 19).
اضطرب بيلاطس وتضايق حالما فض الرسالة وقرأها, ومع ذلك فقد أسهمت هذه الرسالة وهذه اللفتة فى زيادة محاولات بيلاطس لتخليص المتهم الواقف أمامه من الموت, حيث بثت فيه الرسالة روح العدالة الرومانية, والتى تقول “أقِم العدل ولو انطبقت السماء على الأرض” ومن ثم راح يدرس القضية بتدقيق أكثر, مما ضايق اليهود.. وربما ظن بعضهم أنه قد أتته رسالة من رئيسه بهذا الخصوص!.
وكما أرسلت بروكولا معلنة “إياك وذلك البار” …فقد هتف بيلاطس قائلاً “إنى برىء من دم هذا البار!..”(مت 24:27).
بقية أخبار بروكولا:
نسمع بعد ذلك عن هياج أهل السامرة ضد بيلاطس لقتله عدداً كبيراً منهم, وأنهم قد قدموا شكاية ضده للإمبراطور سنة 36م. حيث أمر بنفيه هو وزوجته, ويرد فى بعض التقاليد أن بروكولا والتى تتبعت خطوات المسيح وتعاليمه, إبان وجوده على الأرض قد تحولت إلى المسيحية بعد ذلك. وإذا صدقت التقاليد التى تفيد بأن كلاهما قد صار مسيحياً فستكون بروكولا قد آمنت أولاً.

Share

Permanent link to this article: http://stmina.info/%d8%b4%d8%ae%d8%b5%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%82%d9%88%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%af%d8%a7%d8%a1-2/