من تأملات الآباء
تحتفل الكنيسة فى هذا اليوم بأخر عيد من الأعياد السيديـة الصغـرى السبعة، ألا وهو الأحد الجديد أو أحد توما.
ويسمى الأحد الجديد لأنه أول أحد حفظ لتقديس أيام الأحد بعد إلغاء للنظام القديم.
ويسمى أحد توما لأن السيد المسيح ظهر فيه للتلاميذ ومعهم تومـا فى اليوم الثامن من قيامته.
والإحتفال به هو تنفيذ للدسـقولية (قوانيـن الرسـل) التـى ورد فيها :
“وبعد ثمانية أيام فليكن لكم عيد، لأن فى هذا اليوم الثامن أرضانى الرب، أنا توما، إذ لم اؤمن بقيامته وأرانى أثار المسامير وأثر الحربة فى جنبه ” الإنجيل من معلمنا يوحنا (يو 19:20-31).
أولاً: ظهوره للتلاميذ من غير توما:
+”ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبـواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف فى الوسط وقال لهم سلام لكم، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. فقال لهم يسوع أيضا سلام لكم، كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا. ولما قـال هذا نفخ فى وجوههم وقال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن امسكتم خطاياه أمسكت” (يو 19:20-23).
• فى موضوع السلام الذى أهداه السيد المسـيح إلـى تلاميـذه، عندما قال لهم ” سلام لكم “.
قال القديس أغسطينوس:
+ السلام هو رزانة العقل، هدوء النفس، بسـاطة القلـب، ربـاط الحب، رفيق المحبة.
+ السلام علامة القداسة.
+ المسيح يترك معنا سلاما، لكى نحب بعضنا البعض.
+ المسيح يترك لنا سلامه ونحن في هذا العالم، وسـيهبنا سلامه الخاص به فى العالم العتيد.
+ السلام يعرف الإنسان كيف يعلو على ذاته ولا ينتفخ.
+ المسيح فيه ومنه ننال السلام.
+ من يعش فى سلام مقدس يحيا دوماً مع الله ويكون شريكا مـع القديسين فى الله.
وفى نفس الموضوع قال القديس أغريغوريوس أسقف نزينزا :
فى أول لقاء للسيد القائم من الأموات بتلاميذه المجتمعين، ممثلـى الكنيسة، قدم لهم سلامه الفائق.. لا كعطية خارجية وإنما هبـة تمـس الأعماق فى الداخل، إذ قال لهم ” سلام لكم “.
لقد حقق لهم ما وعدهم به فى ليلة آلامه قـائلا: ” سلاما أترك لكم. سلامى أعطيكم .ليس كما يعطى العالم أعطيكم أنا” (يو 27:14).
وقال أيضا: لنكرم عطية السلام التى تركـها لنا المسيح عند رحيله، فالسلام على وجه الخصوص يخص الله الذى يوحد كل الأشياء معا فى واحد.
قال القديس يوحنا ذهبى الفم:
(إنه يقدم ثمار الصليب أولا، وهو السلام).
قال القديس أغسطينوس:
(هذا هوالسلام الحقيقى وتحية الخلاص.. إذ تأخذ التحية إسـمها من الخلاص). 2- وعن موضوع “أراهم يديه ورجليه”: قال القديس أغسطينوس:
إن السيد المسيح ترك أثار جراحاته بعد القيامة ليشفى بها جراحـات التلاميذ، إذ لم يصدقوا قيامتـه عندمـا أظـهر لـهم ذاتـه و ظنـوه خيالا فأظهر لهم يديـه وجنبه.. كأنه يقول لهم: ( مع إن جراحاته شفيت
فإن أثارها قد بقيت!.. إذ حكم هو بأن هذا نافع للتلاميذ، أن يسـتبقى آثار جراحاته لكى يشفى بها جروح أرواحهم .. جراحـات عـدم إيمانهم، فقد ظهر أمام عيونهم وأظهر لهم جسده الحقيقى ومع هـذا ظنوه روحا).
وعن هذا الموضوع قال القديس كيرلس الكبير:
(إن السبب الرئيسى لإبقاء الجراحات هو الشـهادة لتلاميـذه أن الجسد الذى قام هو بعينه الذى تألم).
وأما القديس أغريغوريوس الكبير فيقدم أربعـة مـبررات لـهذه الجراحات:
أولا: لكـى يبنى تلاميذه فى الإيمان بقيامته.
ثانيا: تبقى هذه الجراحات لتعلن شفاعته الكفارية عنا لدى الآب.
ثالثا: لكـى يتذكرالتلاميذ حبه لهم ورحمته تجاههم.
رابعا: تبقى لإدانة الأشرار فى يوم الرب العظيم.
وقال القديس أمبروسيوس:
ظن التلاميذ فى اضطرابهم أنهم يروا روحا، لهذا فلكـى يظهر لـهم الرب حقيقة القيامة قال لهم: ” جسونى وانظروا فإن الروح ليس لها لحم وعظام كما ترون لى”.
كيف يمكن أن يكون ليس فى الجسد وقد ظـهرت فيـه علامـات الجروح وأثارالطعنة التى اظهرها الرب؟!
لقد قبل الرب أن يرتفع إلى السماء بالجراحـات التى تحملها لأجلنـا ولم يشأ أن يمحوها حتى يظهر لله الآب ثمن تحررنا، بهذا يجلس عن يمين الآب وهو حامل لواء خلاصنا.
3-” ولما قال هذا نفخ وقال لهم إقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت ” (يو 23،22:20).
قال القديس يوحنا ذهبي الفم:
(كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا أعداء كثيرين ما لـم يتسلحوا أولا.. هكذا لم يسمح الرب لتلاميذه أن ينزلوا للخدمة ما لم يحل الروح أولا).
عن الروح القدس قال القديس أغسطينوس:
+ (الروح القدس هو روح الآب وروح الإبـن، أى مـن عملـه الشركة بين الأقانيم).
+ (الروح القدس ليس روح الآب وحده ولا روح الإبن وحده، بل روح الآب والإبن).
+ (الروح القدس من عمله شركتنا مع الله، إذ به تنسكب محبـة الله فينا).
+ (الروح القدس يسكن فى الأطفال الذين نالوا المعموديـة وإن كانوا لم يعرفوها).
+ (إن التجديف على الروح القدس هو الإصرار على عدم التوبة).
+ (إن مغفرة الخطايا لا تعطى إلا بـالروح القـدس ولا توهـب إلا داخل الكنيسة التى لها الروح القدس).
+ (ليتنا نصنع كل ما فى وسعنا لكى يكون الروح القدس معنـا.. أى نتركه يعمل فينا).
وعن الإعتراف بالخطية والغفران:
قال القديس انبا أنطونيوس الكبير مؤسس الرهبنة:
إن تذكرنا خطايانا يمحوها الله لنا، وإن تناسينـاها يذكرها لنا.
وعن نفس الموضوع قال العلامه ترتليان:
(السموات والملائكة الذين فيها يفرحون بتوبة الإنسان.. آه أيـها الخاطئ- كن فى بهجة صالحة.. أنظر كيف يكون فرح فى الرجوع والتوبة).
وعن الروح القدس والغفران:
قال القديس انبا انطونيوس الكبير :
+ الروح القدس الذى يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء فـى الله واهب القيامة من الأموات لكن بروح الإتضاع يهبنا أن نعـترف بخطايانا.
+ إذا سلمت النفس ذاتها للرب بكل قوتها يطهر الله الصـالح لـها كل الأوجاع والعيوب واحدة فواحدة لكـى تحيد عنها.
وقال القديس كيرلس الكبير:
(بأية طريقة وبأى معنى وهب للمخلص تلاميذه الكرامة التى تليق فقط بطبيعة الله وحده؟).
لقد رأى الرب أنه من الموافق أن الذين وهبوا مرة روحه- وهـو الرب الإله- ينبغى أن يحوزوا قوة مغفرة أو مسك الخطايا، فكيفمـا
صنعوا يكون الروح القدس الساكن فيهم هو الـذى يغفـر أو يمسـك هذه الخطايا حسب مشيئته.. علـى أن العمـل الـذى يعمـل يكـون بواسطة الإنسان.
وحسب ما أرى يكون الذين نالوا روح الله يغفـرون أو يمسـكون الخطايا على مستويين:
الأول : فهم يدعون إلى المعمودية الذين هم أهل لهذا السر من واقع نقاوة حياتهم وإختبار مدى تمسكـهم بالإيمان، كذلك فإنـهم يؤخـرون ويستثنون الذين لم يبلغوا بعد إلى استحقاق هذه النعمة الإلهية.
الثانى : وفى معنى آخر هم يغفرون ويمسكون الخطايا بأن يزجروا ويعزلوا أبناء الكنيسة ( أى المعمودية ) كما يمنحون العفو للذين تـابوا.. تماما كما قطع بولس ذلك للذى إقترف الزنا فـى كورنثـوس ” لهلاك الجسد حتى تخلص النفس ” (1كو 5:5)، ثم عاد وقبله فـى الشـركة ” حتى لا يبتلع من فرط الحزن ” (2 كو 7:2).
4-“أما توما واحد من الإثنى عشر الذى يقال له التوأم فلم يكن معهم حين جـاء يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب. فقال لهم أن لم أبصر أثر المسامير وأضع يدى فى جنبه لا أؤمن” (يو24:20، 25).
قال القديس اغريغوريوس الناطق بالإلهيات:
وإن كنت كتوما لم تكن بين التلاميذ حينما ظهر المسيح لهم فتـأكد أن المسيح سيعود ويظهر لك بنوع خاص. هلم المس جراحه ولا تكن
غير مؤمن بل مؤمنا. صـدق كل ما كلموك عنه، وإذا لم تصدق فثـق فى الأيدى المثقوبة بالمسامير.. واسجد له.. وأعبده.
وقال ايضا عن قصه توما مع المخلص:
(يا للتعزية العظيمة التى نلناها بسبب شك توما.. لذلك ظهر الـرب للتلاميذ فى اليوم الثامن- أى الأحد التالى لأحد القيامة- ليس فقـط ليؤكد قيامته ويزيل شكوك توما ولكن ليصير لنـا نحـن أيضـاً هذه التعزيات فنضع أصبعنا فى مكان المسامير ويدنا فـى مكـان الحربـة.. لا لكى نؤمن ولكن لكى نحيا بتلك الجراحات. إن أحد توما هو عيد لكـل نفس تتلامس مع جراحات الجسد الممجد الذى غلب المـوت قـاتلا العداوة بالصليب).
ثانيا: ظهوره للتلاميذ ومعهم توما:
1-“وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف فى الوسط وقال سلام لكم” (يو 20: 26).
فى هذا يقول القديس كيرلس الكبير:
إذن هو لسبب صالح لنا عادة أن يكون لنا إجتماعات مقدسـة فـى الكنائس فى لليوم الثامن ( الأحد )، ويستحب أن نستعير لغة التشبيه فـى الإنجيل، وكما يستلزمه الحاجة، فنقول: نحن نقفـل الأبـواب ولكـن بالرغم من ذلك يأتى المسيح ويظهر لنا جميعا منظورا وغير منظور فـى آن واحد.. غير منظور بصفته الإلهية، ومنظورا بالجسد ( فى الإفخارستيا )، ويجيز لنا أن نلمس جسده المقدس ويعطيه لنا أيضا.. لأننا بنعمـة الله
– ونحن نؤهل أن نشترك فى الإفخارستيا المقدسة- نستقبل المسـيح فى أيدينا بغرض أن نؤمن يقينا أنه حقا أقام هيكل جسده.
2-“ثم قال لتوما هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدى وهات يدك وضعها فى جنبى ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجـاب توما وقال له ربى وإلهى. قال له يسوع لأنك رأيتنى يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو 20: 27-29).
أهم نقطة فى هذا الجزء هى موضوع الإيمـان.. لذلـك أحـب أن نعيش معاً فيما قاله القديس أغسطينوس عن الإيمان:
+ الإيمان نعمة من الله تعطى مجانا وليس أجرا على عمل.
+ الإيمان يدرك ما لا يدركه العقل البشرى.
+ الإيمان الذى ينقى القلب هو الذى يعمل فى محبة.
+ الإيمان يفيض صلاة، والصلاة المفاضة تقوى الإيمان.
+ إيمانك هبة من الله وليس حقا لك.
+ إن غاية الإيمان أن تؤمن، وغاية المحبة أن تعمل.
+ إن لم يستقم إيمانك فلست باراً، لأن البار بالإيمان يحيا.
+ إن الأعمال هى ثمر الإيمان وليس الإيمان ثمر الأعمال.
+ بقدر ما يضعف فينا الإيمان تقوى علينا التجربة.
+ ليكن لكم الإيمان مع المحبة لأنه مستحيل أن يكون لكم محبـة بدون إيمان.
+ سوف يأتى زمن أرى فيه ما كنت أؤمن به ولا أراه.
+ سأرى فى الأبدية ما أؤمن به هنا.. وما أرجـوه هنـا سـوف أحصل عليه هناك.
+ عظيم هو الإيمان إنما لا فائدة منه إن خلا من المحبة.
+ على الإيمان أن يسبق الإدراك ليكون الإدراك جزءاً من الإيمان.
+ إننا نستطيع أن نلمس ذاك الجـالس فى السماء بإيماننـا وليـس بأيدينا.
ويقول القديس كيرلس الأورشليمى فى شرحه لقانون الإيمان:
من يتعلم أن يؤمن بإله واحد، الله الآب القديـر، يلتزم بالإيمـان بإبنـه الوحيد.. “لأن كل من ينكر الإبن ليس له الآب أيضا” (1يو2 :23).
ويقول يسوع: “أنا هو الباب. ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى” (يـو 14: 6. 10: 9)، “ولا أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له” (مت11 :27).. فإن انكرت من يعلن لك الآب تبقى فى جـهل.
لقد جاء فى الإنجيل العبارة التاليـة: “الذى لا يؤمن بالإبن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36).
فالآب يغضب عندما يستهان بالإبن الوحيد، فـإن الملـك يحـزن لمجرد إهانة أحد جنوده.. أما إن احتقر أحد إبنه الوحيد فمن يقـدر أن يطفئ غضب الآب من أجل إبنـه الوحيد؟!
فإن رغب أحد فى إظهار ورعه لله فليعبد الإبن، عندئذ يتقبـل الله خدمته. لقد نادى الآب بصوت عال قائلا: ” هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت ” (مت 17:3).. لقد سر الآب به، فإن لم تكن أنـت موضـع سروره فى الإبن لا تكون لك حياة.